09/01/2024
كتب / منصور السروري
في أحد أيام صيف 2008 إلتقيت ولأول مرة بالشاعر الكبير احمد غالب الجابري، وجلست معه، ونشأت بيننا صداقة حميمية استمرت قائمة حتى بعيد افتراقنا بسبب هذه الحرب اللعينة من خلال الإتصالات.
وكنت قد مهدت للقائه بكتابة عشرة حلقات بعنوان “أحمد الجابري عاطفة تحتضن الوطن” بصحيفة الثقافية الصادرة عن مؤسسة الجمهورية بتعز ، وحلقتان بصحيفة الثورة بعنوان قناديل الجابري الوطنية دراسة لثلاثية الإنسان والثورة والوحدة، وتطورت الفكرة بتحويل تلك المقالات إلى كتاب بعنوان “الفيض العاطفي في أشعار إحمد الجابري” الأمر الذي اقتضى مني تكرار زيارتاته إلى صومعته بمدينة الراهدة كلما سافرت إلى القرية التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن قريتي بمشجب الصلو كي اعرف منه الكثير عن تجربته الشعرية وخاصة عن اسباب كل قصيدة من قصائده الغنائية، وتواريخها.
***
من ضمن الأسئلة التي وجهتها إليه سؤالا عن قصيدة لطالما ظنها محبي أغاني عندليب اليمن الكبير أيوب طارش عبسي من قصائد الشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان (الفضول)، وابدع فنانا المحبوب ايوب إبداعا متماهيا في تلحينها ، وتعد من روائع ألحانه وأغانيه وهي قصيدة طائر الأشجان او قصيدة إيش معك تتعب مع الأحباب يا قلبي، وتتعبنا معك.
عندما سألت الجابري عن مناسبة تلك القصيدة اجتر نهدة عميقة، وفلت من عينيه دمعة وأردف يقول: سأسر إليك شيئاً ولكن لا تكتب عنه على الأقل في حياتي.
قلت له: الله المستعان اعتبرنا إبنك يا أستاذ أحمد.
قال: اصلا أنت لو لم تكتب عني عشرة حلقات خلال عشرة اسابيع متتالية بصحيفة الثقافية عن قصائدي الغنائية العاطفية وحلقتين بصحيفة الثورة عن قصائدي الوطنية واستطعت بذلك ان تقترب من قراءة تجربتي الشخصية بنسبة 80٪ ما كنت اولا لأستقبلك في صومعتي هذه، وما كنت ثانياً لأجلس معك هذه الجلسات وأفتح لك قلبي… لهذا لا تكتب اي شئ عما سأقوله لك الآن.
وكان حينها حاضراً بجانبنا الشاعر نجيب القرن، ثم اردف يقول:
في النصف الثاني من السبعينيات بعدما هربت من عدن خوفاً من أن يكون مصيري مصير أستاذي لطفي جعفر أمان الذي اقتيد إلى السجن حينها، وأيضا كانت بيني وبين أقارب الوالد مشاكل حول الفرن (المخبز)، والبيت، وأيضا بيني وبين الزوجة توجد مشاكل، وأثناء مكوثي في الشمال ايضاً وجدت الاقارب قد صادروا كل ما كان لوالدي من اراضي وأملاك، ولم يبقوا منه شيئاً فعبرت عن تلك الهموم والمشاكل بمطلع القصيدة أجلد فيها قلبي حتى يقتنع من ان لا شئ باقي معي في هذه الدنيا من أملاك أبي لا في عدن التي آمموا فيها كل شئ والباقي أخذه الأقارب، ولا في نعز التي لفلف الأقارب المقيمين في القرية ما كان باقيا لوالدي من حق أبيه دونما رحمة ….. فسألت نفسي سؤالاً:
– لماذا يعاملني أقاربي الذين لا أكن لهم إلَّا كل الحب بمثل هكذا معاملة فلم أجد غير الشعر أبث من خلاله همومي ولواعجي ووجدتني أكتب المطلع:
ايــش مـعـك تتـعـب مــع الأحـبـاب يا قلـبـي وتتعبـنـا مـعـك؟
لا الضنى يـروي ظمـا روحــي ولا الدنـيـا بعيـنـي توسـعـك
لا متـى شاصبر وانـا أجري ورى حبـك أطيعـك واتـبـــعـــك؟
أيـش بقى لي فـي الهـوى غيـر الشجن زادي يلوعني معك…
وحتى لا تغدو القصيدة ذات مضمون اجتماعي أو شخصي وجهتها توجيها غنائياً مزجت فيها معاناتي مع الأحباب دون استثناء بمن فيهم أم إبني.
خـــذ حـيـاتـي لا تعـذبـنـي بأشـجـانـك وتـضـنـي مـضـجـعـك
شفَّني وجْدي فكم أضنى الجوى روحي وأشجـى مسمعـك
عـلّـنـي حُـبــك وأضـنـانــي بــــلا مـعـنــى وأحــــرق أضـلـعــك
ليتنا اقدِر على النسيان يا قلبي وتـنـساني معك
***
طـائـر الأشـجـان ما يشجيك فــي تـيك الـربـى مــن لـوعـك؟
تـشـتـكـي مـثـلي ضنى الأيـام في حبك وتـبـكـي مـربعك
مـــن لأحـراقــي وأشــواقــي يطـفـيـهـا ويـمـســح أدمـُـعــك؟
أيـش معـك غيـر الـذي عِـنـدي يكفيـنـي ويكـفـي مــا مـعـك؟
***
لو يقع لي أدفن الأشـــواق أطويـهــا وأنســـى مـــوجــعـــك
ضـاعـت الأيــام مــن عـمـري ســدى ضاعَت وحـبـي ضيـعـك
روح لـــك بالــلـــه بـــعيـــــد عــنــــي وحـِــــل عـــــن مـوضــعــك.
ولاحقا كتبت قصيدتان من نوع الرباعيات الأولى بعنوان التركة، والثاني بعنوان موكلي… وهما موجودتان ضمن الرباعيات.
***
وأضاف الجابري تقريباً ثلاثة قصائد وظفت فيها بعض ما اعاني في حياتي، فإلى جانب قصيدة هذه الاغنية توجد قصيدتي ( أشكي لمن لحن وغناء أيوب طارش، وقصيدة أشتي أسافر لحن وغناء عبد الباسط عبسي).
يصمت برهة وفجأة ينقلب النصف الأسفل من سِيما وجهه إلى إبتسامة فضحكة جعلتني ونجيب القرن نندهش ونشاطره الضحكة لتخفيف وطأة الموقف الذي فتحه سؤالي عن قصيدة “إيش معك” ونبَّشت بابا من الأحزان في قلبه.
وهو يهز رأسه ضاحكاً يستتلي قائلاً:
بالمناسبة هناك مفارقتان مع اغنيتي أشكي لمن وأشتي اسافر (وراح يحكيها لنا – احتفظ بهما لمقالتين أخريتين- علماً بأني قد أوردتهما في مشروع كتاب مخطوط درست فيه تجربته الشعرية )
***
استمرت معانات الجابري ومتاعبه من الأقارب تلاحقه حتى أثناء هجرته إلى الخليج العربي للعمل مع مجموعة بن محفوظ وتحديداً في شركة سدوك القابضة التي عمل فيها مديراً عاماً لمدة عشرة سنوات، ولم يكن يقصر تجاه أقاربه بأي خدمة خاصة إن كانت مالية عندما يطلبون منه ذلك.
***
عند عودته من المهجر عام 1992 بعد الوحدة كان عمره 58 عاما وصل اليمن وفي جعبته قصيدة “لمن كل هذي القناديل تضوي لمن” أهداها للوحدة اليمنية قبل أن يهديها لصديقه أيوب طارش لتكون واحدة من أروع قصائد ألبوم (مهلنيش) ثاني أشهر ألبوم لأيوب طارش يكسِّر الأسواق بعد ألبوم (هيمان) الذي صدر عام 1984.
توسط له بعض أصدقائه لدى قيادة دولة الوحدة، ليصدر قرارا بتعيينه مستشاراً لصحيفة 14 أكتوبر بدرجة نائب وزير.
طبعاً … لم تضم سنوات خدمته السابقة كمدرس في اليمن الديمقراطية الشعبية ولا سنوات خدمته كموظف في البنك اليمني للإنشاء والتعمير في الجمهورية العربية اليمنية عند انتقاله من الجنوب، ولم تمنح له اي مزايا من مزايا راتب نائب وزير…
فقط الراتب الأساسي.
ومع ذلك حاول أن يداوم في الصحيفة العام 1994، والذي يليه، ولكن لم يكونوا يلقون إليه أي إهتمام، وسرعان ما أحيل إلى التقاعد براتب لا يسمن ولا يغني من جوع.
حاول مراجعة السلطات للحصول على تعويض مقابل المنازل والمساكن التي أممت بعد الإستقلال، فقد كان في أمس الحاجة إلى مسكن في مدينة عدن التي لا يعشق مدينة في الدنيا كعشقه لها، والشقة التي استبقيت لأبيه كانت تقيم فيها أخته.
شقة صغيرة غير كافية لأن يسكن فيها مع أخته وأبنائها.
أمام الراتب الزهيد، وعدم حصوله على مسكن حتى من غرفة واحدة مع حمام يقيم فيها بعدن أضطر أن يحزم امتعته على سيارته التي جلبها معه من الخليج، وتواً يتجه إلى الراهدة التي مكث فيها من نهاية التسعينيات إلى ما قبل أربع سنوات.
***
في الراهدة التي صارت بمثابة منفى قسري اختياري عاش في منزل متواضع ولم يكن دكانا في البداية، كان شقة مكونة من غرفة نوم وحمام، ومطبخ، ومجلس بسيط يحتوي على بقايا مكتبته، وطاولة محترمة وكرسيان خاص به، ولمن يزوره، وللمجلس بابان الأول على الشارع ، و الاخر يقود لداخل مسكنه.
عاش في هذا المنزل ليله ونهاره وحيداً ما يقارب العشرين سنة.
وبعد ذلك قسمت المالكة الشقة لدكاكين ، وسكن الجابري بواحد به حمام، وعندما انتقل إلى الحوبان استأجره صاحب مستوصف وأراد تحويله إلى صيدلية خارجية وبدأ بتركيب السقف المستعار والأرفف جاء الدكتور حامد الشميري واستأجره منه كي يبقى مسكنا للجابري.
***
طيلة اقامته بالراهدة كان في البداية يقود سيارته بنفسه نهاية كل شهر عندما يذهب إلى عدن لاستلام راتبه وزيارة اخته، ولكنه عندما استاءت صحته وظروفه باع تلك السيارة.
في الراهدة وجد الحب الذي فقده في عدن وفي صنعاء واليمن كلها.
احبه الناس كثيرا جدا… كل أصحاب المحلات على تنوعاتها يعاملونه بود ويعرفون قيمته أكثر من أي مكان قد يحل فيه.
الجميع يكن له التقدير … صاحب المنزل والجيران وخاصة جاره منصور عبد الله الصلوي الذي كان إذا ما وجده مريضاً يصر على أخذه ليبقى عنده كي يرعاه ولكن سرعان ما يعود الجابري إلى صومعته الصغيرة فهو يمتلك عزة نفس كبيرة تجعله يغلب جوعه إذا لم يستطع النهوض على أن يطلب من أحد أي خدمة… ملابسه يغسلها بالمغسلة… طعامه يتناوله في مطاعمها، يشتري قاته كل يوم ثم يعود إلى مجلسه البسيط يلتهم وحيداً أغصان الخيال الخضراء، وفي المساء يعتكف فوق المصحف الشريف يقرأ فيه أو كما قال لي:
هذا هو صديقي الوحيد الذي يسليني في صومعتي هذه.
***
أتذكر في آخر زيارة له عام 2016 في الراهدة لأخذ ما ينقصني من معلومات كي أكمل الكتاب، ولكنه قال لي جملة (الله يرحمه صحيح احزنتني غير أني إلتمست له العذر سريعا لأنه سبق أن وجهني ذات مرة لأخذ المعلومات من الصحفي عارف الشوافي بصحيفة الثورة لأن هذه النسخة التي عنده غير مصححة، والأخر أرسلت إليه عبر الفيسبوك فاعتذر) ….. فقال الجابري عبارة لا داع لذكرها احتراما لمقامه الكبير حيا وميتا لم يكن ليقولها إلا بعدما طلبت من عارف تلك المعلومات.
ولكن تلك العبارة هي من قررت تأخير إصدار الكتاب الذي كنت قد أعددته عن تجربته الشعرية حتى هذه اللحظة.
عموماً في زيارتي الاخيرة له عندما وجدت صحته تتراجع بشكل مخيف وجدت نفسي على نحو لاإرادي أسجله بجهازي اللبتوب لمدة خمسون دقيقة (اعتبرها كنزا خاصاً) غير أن الجهاز انطفأ بسبب نفاذ الشحن، دونما ألحق تسجيل شهادة كانت مهمة بعدما سألته:
لماذا لا تذهب لمستشفى اليمن الدولي طالما أن بيت هائل سعيد أعطوك حق مراجعة المستشفى وتلقي العلاج بأي لحظة..؟
فرد عليَّ:
إذا كان هنالك من فضل بعد الله تعالى فهو للحاج علي محمد سعيد أنعم، وللحاج أحمد هائل رحمه الله، وللحاج عبد الجبار هائل سعيد، والحاج عبد الواسع هائل سعيد… وهم الله يحفظهم ويبارك لهم لم يقصروا معي بأي وقت.
***
قبل عامين اتصلت به فوجدته يقيم عند أسرة عبد المؤمن علي عبد الجبار الشوافي في منطقة الحوبان.
اسرة قامت برعايته في سنواته منذ اربعة سنوات أيامها ولياليها.
عملوا معه مالم يعمله معه ابنه الوحيد (كمال) المقيم في صنعاء.
عندما اتصلت به قال لي:
– أتمنى أن كتابي “عناقيد ملونة” قد وصلك، وأتمنى إذا تقدر تزورني في الحوبان سأكون سعيدا أكثر، وسوف أعطيك كل المعلومات التي كنت تريدها لإكمال كتابك، وايضا اريد منك تعيد مراجعة التشكيل الحركي في الكتاب وأخطاء إملائية وردت دون قصد.
فقلت إن شاء الله سوف أزورك ولكن الآن لا أستطيع لأني نازح إلى الحجرية، وأسال ان يطيل لنا الله بعمرك وسنلتقي.
***
اود ان اشير إلى نقطة في غاية الأهمية وربما أدخلت البهجة والسرور إلى قلب الفقيد الجابري عام 2020 حيث قام الدكتور حامد الشميري وبإشراف من الاستاذ نبيل هائل سعيد أنعم بأخذ المسودة التي كان يحتفظ بها، وإعادة طباعتها في مجلد مترجم لأعماله الشعرية يحمل عنوان عناقيد ملونة يحتوى على ستة دواوين شعرية ولولا هذه الخطوة التي بذل في سبيلها الدكتور حامد الشميري جهداً كبيرا، وتكللت بتبني الاستاذ نبيل هائل سعيد أنعم طباعتها لكانت قد ضاعت 207 قصائد بينها 85 قصيدة غنائية منها 67 باللهجات الشعبية اليمنية و18 قصيدة غنائية فصحى، ولكانت تجربة عبقري الشعر الغنائي اليمني الجابري في القرن العشرين قد انطمرت وصارت بالغة التعقيد لمن يريد ان يطلع على تجربته او دراستها دراسة بحثية ومنهجية وتوثيقية.
لهذا كم نحن معشر الادباء والكتاب ممتنون لكل من الدكتور حامد الشميري والاستاذ نبيل هائل سعيد أنعم اللذان لحقا ما يمكن لحاقه وحفظه للمكتبة الثقافية الإبداعية اليمنية وللأجيال، وللعلم سبق ان الجابري كان قد اعطى وزارة الثقافة في عهد الاستاذ خالد الرويشان نسخة منقحة ومصححة، وقام الأخير بتصديرها إلى بيروت للطبع غير إنها احترقت فكتب قصيدة رباعية يبكي فيها بيروت وديوانه وهي منشورة ضمن الرباعيات في مجلد عناقيد ملونة بعنوان “بكائية إلى بيروت” ص (97) .. قال فيها:
قلت بيروت وقلبي مثل قوس احترق
مسه النار فأضحى لونه وجه الشفق
يتلوى خلف جدران وتل من عرق
لف ديواني بليل حاملا بعض الورق.
***
كثير الذي بجعبتي عن فقيد اليمن والساحة الثقافية الأدبية اليمنية سوف أتي عليها في كتابات لاحقة، وقد أوردها في الكتاب الذي كنت قد بدأت في تأليفه وأوقفته لأسباب خارجة عن ارادتي غير أني في مقام الرحيل لهذا الشاعر اليمني الاستثناء ما كنت أتوقع أن تلازمه المتاعب حتى في موته وترافقه إلى قبره وكأن التعب والقهر والضنى الذي عبر عنه في كثير من أشعاره أكانت غنائية أو فصحى يجب أيضاً أن يلاحقه حتي قبره الذي لم يرغب به ومع ذلك دفن فيه رغم أنه كان قد أوصى وصية بأن يدفن بجاور قبر أمه.
لكأن الجابري كان يعلم أنه سيحرم ويمنع حتى من تحقيق أمنيته في أن يوارى جثمانه بمدينة عدن حيث يرقد جسد أحب إنسان في الوجود عنده “أمه” التي رثاها بقصيدة عندما توفيت ولم يستطع النزول من الشمال للمشاركة في تشييعها فكتب قصيدة رباعية ( أماه نامي) ص 38:
من غير أمي إذا ما نابني سقم
تحنو علي ويدمي مقلتيها دم
ماتت وكنت غريب الدار في سفر
وددت لو جئتها أسعى ولي قدم
أعاقني حاجز للخوف في بلدي
أنى أعود؟ وفيه حل منتقم
أماه نامي فلا نامت لهم أبداً
عين كعينك لا حزن ولا ألم
مثل هكذا أم في روح شاعر مرهف رقيق … أم على الأقل حرم منها بهروبه من عدن وحرم من رؤيتها وتوديعها وهي تفارق الحياة سيكون من غير المعقول أن يحرم أيضاً من الرقود إلى جوارها النومة الأبدية.
لهذا نجدها لتحقيق تلك الأمنية يكتب وصية ضمن الرباعيات ص (82) قائلاً:
يا خليلي إن دنا الموت مني
فادفناني بالقرب من قبر أمي
حيث كانت ولا تزال تنادي
من ثرى لحدها، ومن قبل باسمي
آثَرَتْ أن تموت والموت حق
وعلى صدرها من الوجد رسمي
كم وددت الحياة بالقرب منها
فادفناني فليس لي غير جسمي
***
قصيدة كتبها قبيل عشرون سنة يوصي فيها أن يدفن بجوار أمه… أمنية وحلم أبى ابنه الذي لا يعرفه كثير من الناس إلا أن يحرم والده منه.
الجابري طيلة السنوات الأربع الأخيرة عاش مقيماً في بيت قريب له يدعى عبد المؤمن علي عبد الجبار هم يقوم بالعناية به…. ولنتخيل مسن يتجاوز عمره الثلاثة والثمانين سنة، وفوق ذلك يعاني من مرض السكر وغيرها من الأمراض…. لنتخيل من الذي يُعنى به في كل شيء كل شيء … شخص آخر وليس ابنه…. شخص له، وزوجته وأبنائه اسمى كلمات وعبارات الشكر والتقدير لما قاموا به من عناية للجابري
***
عند استكمال علاجه في القاهرة قبل بضع أشهر قال لي الزميل الإعلامي رضوان الصلوي: التقيت بالاستاذ الجابري وكانت اخر كلماته وهو يودعنا عائدا إلى اليمن أمنيتي أن أدفن بجوار أمي في عدن.
عاد الجابري ومكث في الحوبان عند اسرة عبد المؤمن الشوافي.
قبل عشرة أيام قرر يزور ابنه في صنعاء وهناك استاءت صحته ليلحق بالرفيق الأعلى صباح السبت المنصرم 6 يناير.
اتصل الدكتور حامد الشميري بإبنه وأبلغه أنه قد جهز سيارة اسعاف على حسابه وسيارة اخرى لمن سيرافقهم كي تنقل جثمان الفقيد إلى عدن ليدفن حسب وصيته.
رفص الابن.
اتصل من القاهرة الحاج عبد الواسع هائل سعيد انعم لإقناعه… ولكنه رفض.
استخرجوا فتوى بشأن ذلك وانه لا يجوز دفن الميت إلا حسب وصيته…. وانه طالما هناك من سيتكفل بنقل الجنازة فقد انتفت حجة عدم تنفيذ الوصية…
ولكنه رفض.
حاولوا توسيط شخصيات كبيرة في صنعاء لإقناع الابن بنقل الجنازة إلى عدن.
رفض ولم يصغي لأحد.
بالنسبة لي لم أستغرب فقد اعتبرت موقف الابن لكأنه تكفير عن القصور والتقصير الذي وقع فيه تجاه والده طيلة حياته، ولذلك أصر تحت مبرر أن الجثة قد بدأت تتورم فسارع لدفنه مع أنه مبرر واه كون الجثة كان ممكن أن تنقل بنفس اليوم حال وافق على نقلها إلى عدن.
كثيرون فسروا اصرار ابنه على دفن جثة والده بصنعاء هو امتداد لحرمان الرجل مما كان يحلم به في حياته.
لأن الأمر لا يتوقف على الدفن فقط بل ان الدفن بعدن كان سيشارك به المئات ممن يعرفونه بعكس دفنه بصنعاء حيث لم يشارك بجنازة الرجل غير العشرات بجوار الأستاذ خالد الرويشان الوزير الأسبق.
ناهيك عن أن التشييع والدفن، والعزاء في عدن كان قد أعد له ابناء هائل سعيد أنعم، والدكتور حامد الشميري، وقناة السعيدة اعدادا يليق بمكانة ومقام الشاعر الفقيد الجابري.
ومع ذلك نظمت السعيدة بإشراف مباشر من رئيس مجلس إدارتها د. حامد الشميري عملية عزاء يوم الاثنين بقاعة وصالة عدن مول بكريتر مدينة عدن وقبلها كانت قد اعلنت عن ثلاثة أيام حداد على رحيل الشاعر الجابري.
***
رسالتي في هذا المقام لصحيفة 14 اكتوبر ولأقارب الفقيد الاهتمام بتراث الفقيد من ناحية بجمعه وحفظه، ومن ناحية ثانية جمع كل ما كتب عنه على إثر وفاته من مقالات ودراسات وجمعها في كتيب واصدارها في الذكرى الاربعينية لرحيله كأقل واجب يقدم إلى هذا المبدع الذي سيقف طويلاً بالتأمل والفحص والدرس الباحثون والدارسون أمام تجربته المتسمة بالريادة، والتجديد والتميز.
ختاماً رحم الله فقيد الوطن والابداع الرائد الأول لشعر الغناء التعزي مع المرشدي، وثالث شعراء الأغنية العدنية، والمجدد لشعر الغناء الحميني والحضرمي، الشاعر الأوحد الذي كتب بكل اللهجات اليمنية ناهيك عن قصائده الفصحى التي هزمها شعره الغناني.
رحم الله الجابري وأسكنه الفردوس الأعلى.