الجمعة , 29 مارس 2024
الرئيسية » منبر حر » قـادمـا مـن دمـشـق

قـادمـا مـن دمـشـق

01/12/2021

حيدره محمد

في سبتمبر١٩٩٧من القرن الماضي،عاد والدي قادما من دمشق،وبرفقته تابوت خشبي بني اللون،لازلت أتذكره،لم يكن ذلك التابوت سوى جثمان جدي المتوفي بسوريا في إحدى ليالي شتاء أيلول الشامية.

كانت سوريا وقتها تعيش آخر أيام حكم حافظ الأسد،كنت متأثرا بسوريا كثيرا،كنت أراها بعيون طفل لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.

ولم أكن بعد قادرا على أن أُميز الفارق بين الانقلابات الناعمة وبين الانقلابات المسلحة..أو لعلي وقعت تحت تأثير مسرحية”كأسك ياوطن”لمحمد الماغوط ودريد لحام.

وما أن أنتهينا من الدفن ليلتها،حظيت بالجلوس مع أبي ورؤيته عن كثب،فأنا لم أره منذ شهرين وأكثر،وهنا توقفت.

وطفقتُ أحدقُ في وجهه المتهلل وملامحه الوضاءة،كان كل شيء مختلف في والدي،ويثير التساؤلات لدي،أبي لايتحدث إلا بقدر السؤال الذي يتلقاه،على غير عادته المتسمة بالنقاش والحوار.

لاحظ الحاضرون ذلك،لكن على مايبدو أنهم ظنوا أنه متعب من السفر،ولعلهم لحزنه الشديد البادي عليه آثروا الصمت..فاالأبُ حين يرحل يُخلف فراغا يفرض على المرء أن يكون كفؤا لملئه وأبي كان أهلً لملئه.

ومر الوقت،مرت ساعة ولم يخرج سجاره واحدة ليشعلها،بل لاوجود لباكيت دخانه،غريب،ماالأمر..لم اسأله،ولم يكن الوقت مناسبا وقتها لطرح الاسئلة،اكتفيت بحرارة دفئ الأبوة وانا بجانبه،بينما كان هو يصطلي بفقدانه أياها للأبد.

يال السخرية،فلم أكن استوعب أن الأباء يفتقدون اباءهم ولو كانوا كبار،بل أنني لما كنت بجانبه كنت اشعر ببعض التذمر لأن ابي لم يوليني ذلك الاهتمام الذي أعتدت عليه..لم أكن اعلم أن بداخله طفل يفتقد أباه.

وبعد شهرين من عودته،لم الحظ أن صمته وتوجمه تغير،وأن كان يتحدث ويمارس حياته بشكل طبيعي،الشيء الثابت أنني لم أره يدخن سجارة واحدة،لازلت أتذكر السخان الخشبي الذي جلبه معه،والصندل العربي من الجلد الدمشقي الخالص،لم يستخدمه كثيرا، اعطاني اياه بعد عودته باسبوع،ظل معي عامين كاملين ولم يتمزق أو يبهت لونه.

ومما أتذكره أنه جلب بعض الأدوية الخاصة بعلاج ترسبات الكلى،كان يعاني كثيرا من تلك الترسبات،لكنه لم يشكو ولله الحمد قط بعد أن تماثل للشفاء بفضل الأدوية التي بدأ يتناولها في سوريا وأكمل تعاطيها في أول شهرين له بعد عودته.

ومع الأيام،عاد أبي الذي، اعرف،بتبسطه،وابتسامته،واحاديثه التي لا أكل ولا أمل منها،عاد بكل شيء،عاد بحكمته وتجلده،وحلمه وعقله،عاد بغضبه وحدته في بعض الأحيان.

ووجدت كل الأجابات التي كنت أبحث عنها..فوالدي اقلع عن التدخين بفضل شتاء دمشق القارص،والذي لم يكن يدع للدخان مذاقا ولا رائحة،عندما كان يدخن بسوريا،ولهذا اكتشف انه يستطيع أن يقلع نهائيا عن التدخين.

وأما اقلاعه عن السياسة،فالسبب أيضا يعود لدمشق،دمشق أخبرت أبي بكل الأسرار،اسدلت الستار عن اوهام القائد العربي المناضل في سبيل أمته وعروبته،والنضال لتحرير فلسطين،قالت دمشق لأبي لاتصدق،فالزعيم الخالد جاء بدبابته للقصر.

دمشق أخبرت أبي أن المواطن السوري إذا مر امام تمثال السيد الرئيس،ولم يرفع كفه مؤديا التحية العسكرية،فأنه يسجن ويغرم غرامة مالية قدرها خمسمئة ليرة سورية.

دمشق علمت أبي أن المواطن العربي أشرف وأعز من كل الحكام والاصنام،ولهذا اقلع أبي عن السياسة،ولم يعد يعترف بغير الشعوب التي تحلم بالكرامة..لا الكرامة التي كتبها الماغوط وجسدها لحام.